الاثنين، 22 مارس 2010

بيان بودليري حول قصيدة النثر

بيان بودليري حول قصيدة النثر

ترجمة وتقديم:محمد الإحسايني

آرسين هوساي:

أقدم إليك أفعى بكاملها

صديقي العزيز، أرسل إليك عملا صغيراً لا يمكن أن يقال عنه بلا إجحاف في حقه : ليس له ذيل ولا رأس، بالعكس، إن كليهما يوجدان فيه طرداً وعكساً .قدّرْ، أرجوك، كم من فرصة عجيبة يتيحها لنا جميعاً، لك أنت، ولي أنا، وللقارئ.

نستطيع أن نقطع أنى نشاء، أنا بتصوري، أنت بالمخطوطة، القارئ بقراءته، ذلك أنني لا أعطل الإرادة الجموح لهذا القارئ على مدى استمرار سرد عقيم لا نهاية له. أزل فقرة والقطعتين من هذا الإبداع الملتوي، سيلتقي بعضه بعضا دون صعوبة. افرمه إلى أجزاء عديدة، وسترى بأن كل واحد منها، يمكن أن يوجد قائما بنفسه. أتجرأ أن أقدم اليك أفعى بكاملها في التجربة التي تصبح بعض هذه الأجزاء حية بما فيه الكفاية، كي تعجبكم وتلهيكم.

محاولة إبداع شيء مماثل

لغاسبار الليلي

لدي اعتراف طفيف أسره إليك، ألا وهو: وأنا أتصفح للمرة العشرين على الأقل، GASPARD DE LA NUIT الشهير،)لصاحبه " Aloysius Bertrand" وهو كتاب معروف عندك، وعند ي، وعند بعض من أصدقائنا، أليس له كل الحقوق ليسمى شهيرا ؟) وأنا أتصفح ذلك … وردت عليّ الفكرة في أن أحاول[ الإتيان] بشيء مماثل، وأن أنقل الطريقة التي كان قد طبقها من تصوير الحياة القديمة الجديرة بالتصوير، بشكل غريب، إلى وصف الحياة الحديثة، أو بالأحرى، حياة حديثة أكثر تجريداً .إن الإجراء الذي طبق في تصوير الحياة القديمة، غير مألوف جداً.

قصيدة النثر: تعريف أولي

أي كاتب من كتابنا، في هذه الأيام، لا يملك الطموح، ولم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقي بدون إيقاع، وبدون قافية، جد مرن ومتنافر، كي يتلاءم مع الحركات الغنائية للنفس، وتموجات الحلم وانتفاضات الوعي؟

تـودد

إنه التردد على المدن الضخمة بالخصوص، وإنه التقاطع لعلاقاتها التي لا تحصى، و التي تولد فيها تلك العبقرية المهيمنة. حتى أنت صديقي العزيز، ألم تحاول أن تترجم أنشودة Le cri Strident لـ Vitrier، وأن تعبر في نثر غنائي، عن جميع الإيحاءات المحزنة، التي ترسلها تلك الصرخة حتى السقيفة عبر ضباب الشارع ؟.

فرادة لا يمكن إنكارها

لكن والحق يقال، أخشى ألا تجلب إليّ غيرتي سعادة، فحالما شرعت في العمل، ما رأيت فقط، سوى أنني لم أبق في منأى عن نموذجي العجيب من الشعر اللامع، بل إنني أيضا قمت بشيء ما (إذا كان ذلك يسمى شيئا) مختلفٍ بالخصوص ، ذلك عارض مافتئ يزهو به كل واحد سواي بدون شك، ولكنه عارض لا يمكن أن يستخف استخفافاً بنفس ترى بأن أكبر شرف للشاعر، أن يتمم بالضبط ما شرع في عمله.

المخلص لك جدا (ش. بودلير(

...وسيخضع الشاعر لأنواع من العذاب سامه إياها هوساي إلى حد الإذلال والمهانة.

الحلم الطويل بقصيدة النثر

وظل الشاعر يداعبه الحلم الطويل بقصيدة النثر، كماتؤكد الرسالة التي كتبها إلى هوساي في نويل 1861: " أوجد بعض اللحظات التي تتصفح فيها هذه العينة من قصائد النثر التي أبعثها إليك، إنني أقوم بمحاولة من هذا القبيل، وأعتزم إهداءكم إياها، في نهاية الشهر، أضع بين أيديكم كل ما قد أفرغ منه ) عنواناً مثل المتنزه الانفرادي أو الجوال الباريسي( . ربما يحتاج ذلك إلى ما هو أفضل، لآنك أيضاً قمت ببعض المحاولات من هذا النوع، وأنت تعرف كم هو صعب ذلك، خاصة من أجل تفادي وجود مشهد يكشف الخطة عن شيء ما، لجعله شعراً.ما زلت ألتمس منك حمل المخطوطتين اليدويتين) واحدة إلى La Presseالتي تحدثنا عنها)، والثانية إلى L’Artiste وهذه الأخيرة هي الأوْلى. لقد مضت سنوات عديدة، وأنا أحلم بقصائدي النثرية.

وسأطلب منك في ذات الوقت، أن تؤدي لي عن الجزء الذي فُرغ منه بعدُ، أو المجموع المفروغ منه، ذلك أن الانهيار الفجائي والمتزامن لـ La Fantaisiste و لـ L’Européenne قد أفقرني.

أطلب وعدا كتابيا في حال عدم وجود النقود.

لكن، بما أن ذلك اليوم، هو يوم السنة الجديدة، كما أنك ربما ستكون منزعجاً، وأنه من جهة أخرى، غير مسموح بالتهافت بغتة على الناس أيضاً، ومن ثم، ألتمس الموافقة حيناً على قضاء حاجتي، بكل طيبة خاطرك – في حال عدم وجود النقود -سأطلب منك كلمة كتابية تعدني بإدماج أشعاري، وفي هذه الظروف، أملك منحة صديق لا يبخل عليّ بشيء.

الجانب الهام من هذا العمل، أنه يمكن أن نقطعه أنى شئنا. وفي خلدي أن هتزل، سيجد فيه النمط الملائم لمجلد رومنطيقي بالصور.

وكانت نقطة انطلاقيGaspard de la Nuit d’Aloysius Bertrand، الذي تعرفه بدون أي شك، لكن سرعان ما أحسست أنني لم أستطع، أن أسلم في هذه المعارضة (الأدبية للنص المراد تقليده) وأن العمل [الآنف الذكر] لا يمكن تقليده. لقد قررت أن أكون أنا – ذاتي. وستكون فرحا شريطة أن أكون مسليا، أليس كذلك؟.

لقد سبق أن مضى بعض الوقت الذي أردت فيه أن أقدم إليك هذا الكتيب، وأعلم أنك تقوم بمعجزة، أو على الأقل، أنك تريد أن تقوم بها مجددا الشباب للـ Artiste"، عسى ذلك يكون رائعاً، إنه يعيد لنا الشباب نحن بالذات.

باختصار، مهما يكن، فهو أقل ما تعمله من أجلي، فشكراً مسبقاً."

ظهور عنوانين أهملا سريعاً

رسالة جد كاشفة، مثل غالب المرات، من حيث إن اللمحات حول العمل، وحول الإبداع الشعري، ممتزجة بهواجس المال. أيضا، نجد فيها بعدُ، نظرة إجمالية للإهداء؛ ونرى فيها ظهور عنوانين اثنين، سرعان ما أهملا.

تدخل هيتزل الناشر

يرضخ هوساي، و يتلـقى المخطوطة اليدوية كلها، ويحتفظ بها في درجه، بينما يجتاز بودلير فترة صعبة بالخصوص: لقد تضاءلت آماله كلها عن الموارد المالية المقبلة، ولم يبق له إلا الديون، في حين يتدخل الناشر هيتزل الذي اشترى Le Spleen de Paris و Les Fleures du Mal فيأمل أن ينشرهما في أقرب الآجال. وذلك من خلال رسالة لا يمكن أن ُيستغنى عن الاستشهاد بها: "إقرأ بجد – أود أن أكتب إليك هذا بحروف من نار- البداية الأولى لقصائد نثر بودلير، كي أستطيع نشرها ينبغي أن يظهر ذلك على [صفحات] الجريدة.

الافذاذ نادرون

بودلير هو صديقنا العزيز – بيد أنه يقيناً ، الناثر الأكثر أصالة والشاعر الأكثر فرادة في زمننا هذا- ليس هناك من جريدة يمكن أن تستمع إلى هذا الشاعر الكلاسيكي الغريب في أشياء ليست كلاسيكية- ألا أنشْر له- لكن سريعا- واجْعلني أقرؤه مباشرة. إن الافذاذ الحقيقيين نادرون جدا ً."

و كيفما كانت المصلحة الشخصية للناشر، فإن هذه الرسالة هي مفخرة لبعد نظره. لقد كان لها تأثير مباشر: ثمانية أيام فقط، بعد أن أرسلت، أخذت تظهر القصائد Les Petits poèmes في صحيفة La Presse التي تابعت نشرها.

ولكن يتوقف النشر بدوره في القصيدة العشرين. في غضون ذلك، سيخضع بودلير من هوساي لأنواع حقيقية من العذاب، فعلينا أن نعرف إنهوساي سيطلب منه أن يحذف من نصه الذي هو، كما نعلم، دمه ولحمه.

تعثر الإنجاز الشعري البودليري

ويتفاقم الخلاف، لأن مدير صحيفة La Presse، تنبه إلى أن جميع النصوص لم تنشر. في هذه الأثناء، تابع بودلير – بتؤدة، وبجهد جهيد – عمله الأدبي، لقد كتب قصائد جديدة لم يستطع ترتيبها. وهتزل ينتظر. يكتب بودلير يوم 3 يناير 1863 : Le Spleen de Paris"، لم ينجز ولم يفرغ من كتابته حالياً. لا يحتاج لإنهائه إلا خمسة عشر يوماً من العمل على وجه التقريب " لكنه بعد يومين، يعود ليقول: "إلهي، ما أطول هذا للانتهاء منه!".

كثرة العراقيل

كذلك، إلى النهاية الحقيقية – للأسف! نهايته – لن يجرأ بودلير، أن يدرك نهاية عمله تارة، وتارة أخرى، سيعلن عن الفراغ منه دائما في " نهاية الشهر"

على أنه لم تخمد همته أبدا، إن في اشتغاله أو في محاولته للنشر، يأخذ منه مدير مجلة نصوصه، ولكن ليحذف منها؛ وناشر آخر، يتراجع أمام المجازفات التي يسببها له طبع كلمة "imbécile !" ويعتبر بأن ورود ذكر العطر لإحدى النساء، بالنسبة لكاتب، هو "وسيلة سادية" (كذا (.

النشر الكامل لقصائد النثر

وأخيراً، جاءه انفراج، ففي يوم 7 يبراير (شباط 1864، تعلن "الفيغارو" النشر الكامل لـ "Spleen de Paris، قصائد نثر" –أعلنت ذلك بقلم Bourdin نفسه، الذي كان من خلاله مقاله في جريدة الفيغارو ذاتها، قد شن حملة للمتابعات ضد أزهار الشر. على بودلير، أن يذوق التهكم، و نكهة المفارقةـ لكن بالنسبة إليه ـ أن هذا الانتقام، قد ظهر أيضا كالبداية لحقبة جديدة: أخيراً، قد ُفـُهم عملُه، وَيعِدُ هذا التعاون المجدي، في الوقت ذاته، بالنجاح والمال، تنشر الفيغارو ستا ًمن قصائده مرة أخرى، (تابع) بدون (تتمة.(

قصائد مزعجة

ويمكن أن نتصور ما يعانيه بودلير، عندما يبدي لأمه سبب هذا التعطل في النشر: " قال لي المدير: بكل بساطة، إن قصائدي، أزعجت الناس".

يوجد بودلير في بروكسيل، منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ويكتب إلى أمه يوم 8 غشت (أغسطس) 1864: " آه! يا لها من فرحة عندما ينتهي ذلك! إنني منهوك، متقزز بما فيه الكفاية، من الكل، وحتى من نفسي، وإنه ليخيل إلي أحيانا أنني سوف لا أستطيع إتمام هذا الكتاب المعطل أبدا، منذ أمد بعيد، والذي بالرغم من ذلك، داعبت فيه الفكرة كثيرا!".

في نهاية السنة، أعطى ست قصائد – منها ثلاث قصائد غير مطبوعة – إلى مجلة La Revue de Paris، التي احتجبت قبل أن يكون لها الوقت الكافي، لتسديد ثمن تلك القصائد إلى المؤلف!

لم يتخل عن مشروعه الشعري

في ذلك العهد، يمكن عن سداد فكر، إيجاد الدليل على أن بودلير، بالعكس، من الرأي السائد، لم يكن، ومنذ زمن طويل، قد تخلى نهائيا عن مشروعه الأصلي: مائة قصيدة.

وكما رأيناه، فقد تخلى عنها، بالأحرى، خلال فترات متقطعة، فضلا عن أنه موزع بين الضرورة وتحديد نفسه، وبين الرغبة في إظهاره للـ "pendant". وفعلا يكتب: "Le Spleen de Paris" " هذا الكتاب اللعين، الذي عولت عليه كثيرا، بقي معلقا إلى المنتصف ". إلى المنتصف، غير أنه في هذا التاريخ، تقريبا، كان مجموع خمسين قصيدة قد كتب (38 قصيدة كانت قد نشرت، ووُجدت منها بالتأكيد قصائد أخرى، حيث إنالفيغارو عطلت نشرها).

بعد ستة أشهر، 4 ماي (آيار) 1865 كتب بودليرإلى سانتبوف Sainte-Beuve : "لم أصل سوى إلى ستين قصيدة، لا استطيع المضي [في إكمال القصائد.]"

إنها حجة، حتى لو أخطأ في تقدير العدد (أو تراه قد أتلف عدة قصائد؟) الذي كان قد يرغب فيه من وراء قوله "مُضي". وفي ذات الوقت، في رسالة إلى "مانيه" Manet: "عندي مجموعة من قصائد النثر [مهيأة] للنشر…".

استباق ورغبة في النشر

ويستبق [في رغبته وتوقه للنشر] كالعادة. بيد أن ذلك جيد للغاية، إذ يتخلى عن الرغبة في أن يضيف [قصائد أخرى]، وسيزمع على أن يختم الكتاب.

بالنسبة لهذه اللحظة، ما زال يعمل في الشهور الأخيرة لسنة 1865 بإطراد، و بصعوبة. وفي بداية عام 1866، تشهد رسائله أيضا على إرادته في إنهاء الكتاب ثم في نشره. بيد أن المقدرة الإبداعية له، قد استنفدت نهائيا. وحتى الرتوشات التي تحملها القصائد، طفيفة، على الأقل [نراه] يصنفها وينشئ هذا الفهرس من المواد التي تشكل وتغلق الديوان. ويكتب يوم 3 مارس (آذار) 1866: " سأعمل 15 يوما بنشاط في ديواني Spleen de Paris (…) عسى ذلك ينتهي، أذهب إلى باريس سعياً وراء المال بنفسي". وانتهى كل ذلك… وسيرجع من باريس، لا حتى من أجل "أن يتخانق مع العدم"، كما فعل ستندال، بل من أجل أن يغوص هناك وقتا طويلاً. وظهر الديوان، سنتين بعد وفاته يونيه –حزيران - 1869 عند مشيال ـ ليفي، ليشكل مع Les Paradis artificiels، الجزء الرابع لـ "الأعمال الكاملة"، تحت عنوان Petits poèmes en prose.


تعليق

في رسالته إلى أرسين هوساي مايفسر لنا نظرة الشاعر إلى قصيدة النثر التي تبلورت لديه. ولنا أن نركز فيها على نقطتين:

1تطبيق الوصف في الحياة الحديثة.

2 - نثر شعري.

1- تطبيق الوصف في الحياة الحديثة:

يعبر بودلير بذلك عن القصد الحداثي، وعن مفهومه لـ سأم باريسي أكثر مما يعبر عن بنية ديوان قصائد نثر قصيرة؛ فاتساع المدن الهائلة الذي شهده القرن19 لم يترك مجالاً للتعابير التقليدية، وذلك في اتجاه، سبق أن عكسته قصيدة الإوزة في أزهار الشر حيث تتطابق تلك القصيدة استطيقياً مع الدهشة والحداثة، في اتجاه استعارة أخرى قلقة.

2 – نثر شعري:

أي كاتب من كتابنا هذه الأيام، لا يملك الطموح، ولم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقي بدون إيقاع، وبدون قافية، مرن جداً، ليتلاءم مع الحركات الغنائية للنفس، و تموجات الحلم، وانتفاضات الوعي."

نثر شعري: تعبير بودليري قبل كل شيء، نتاج تردده على الحواضر الكبرى، يتنافى مع الوحدة الإيقاعية، وهو ما ترفضه جمالية العروض القديمة إذن؛ فقد حسم بودلير حساباته مع الشعر القديم، في محاولته كسر انتظامه الإيقاعي للوصول به إلى إيقاع آخر، وفي اتجاه قصيدة النثر " ثم ظهر نوع من تضارب الآراء:ظهرت أحكام مخيبة لـ ســـأم باريسي، أحكام رسمت مسبقاً، ما يتعلق بمصائر القصائد الأولى، قصائد نثر قصيرة، وفي الحين، بشر استقبال الجمهور لهذه القصائد بنجاح، قلما عرفه بودلير.ومنذ النشر في مجلة la fantaisiste1861 ، صمم سانت بوف هذه المرة ، بحرارة، فيكتب عن المهرج العجوز والأرامل بأنهما جوهرتان. ذلك مجرد كليشه، وإطراء مبالغ فيه، لكن لا يهم: لقد انتظمت تفاليد قصيدة النثر. وظهرت بعد بضعة أشهر مجموعة من أهم القصائد، قبل نشر الديوان بعد وفاة الشاعر، في la Presse التي يشرف عليها هوساي ، فيظهر مقال للشاعر Banville يلمس التجديد كل التجديد فجأة في قصائد النثر، والجمال الذي سيُهتدى إليه مؤخراً، فيكتب في البوليفار يوم 13 غشت 1862 : " وقع حادث أدبي حقيقي، أريد أن أتحدث عن قصائد النثر لـ شارل بودلير(…)، فقد أنجز هذه الأعمال الرئيسية فنياً، الوقت الذي خلص فيه الفكر الحر الخفيف الحركة من كل غموض، إن صح القول، ومن كل بناء مادي، فظهر في لغته البراقة، فلم تملك قصائد النثر، سوى أن تظهر بنفسها لتعفر في التراب، جمهرة تلك التماثيل المغرورة والفارغة)...(،ومرة أخرى ، جاء رجل برهن عن الحركة سائراً في خطوة مظفرة، فلا تخذلوه، وفي خيار النثر التطبيقي، هناك أيضاً برهان عام، وها قد مرت ثلاثون سنة؛ فماذا أقول؟ها هي ألف سنة نردد فيها بإشفاق: " ما عسا كم تصبحون بدون الشعر، وبدون الإيقاع، وبدون القافية، وبدون هذه المفاتن المادية تماماً، وهي تؤكد لكم قبل كل شيء، تواطؤ حواسنا، وتهدهد النفس في انتشاء موسيقي، وتخفي تحت غنى وشيها، السذاجة البئيسة لأفكاركم؟ والآن، مازالت قصائد نثر بودلير تستجيب لذلك(…) أيها الشاذون المولعون بتصوركم أنْ قد أُعطيَ فقط، الامتياز غير المسموع به، إلى شيء ما، من هدهدة المقاطع، وإلى حذف ما، للمعنى، وإلى العودة المنتظمة لبعض النغمات، لإيلاد كائنات."

تذييل

أبعاد السأم والكآبة في:

Le Spleen de Paris

التوقف ملياً ضروري أمام دلالات كلمة spleen المنتقلة من الإنجليزية إلى الفرنسية، نظراً لأبعادها التي تمتّ بصلة إما إلى الحقيقة وإما إلى المجاز )المجاز المرسل(،إذ لو استعملت فيما وضعت له فقط، لما احتاجت إلى التأويل عن طريق المجاز. فـ : spleen مصطلحاً وثيمة، يعني السوداء، أي نظرية الأخلاط في الطب القديم، وبالخصوص الطحال) موطن تلك الأمزجة( علماً أن الرومنطقيين الفرنسيين كانوا قد استعملوه للتعبير عن الاكتئاب، والهروب من الواقع، وفي التعبير عن قلقهم. ولعل اختيار هذه الكلمة لتدخل إلى الفرنسية آت من غرابتها نفسها، فالانتقال إذن كان رمزياً حتى لاتظهر مباشرة في الأشعار الموزونة إلا من خلال العناوين وحدها)أربع قصائد منspleen et idéal ٍ أزهار الشر).

إلا أن هذه الكلمة بمقدار ما يتمدد معناها، بمقدار ما يعطي أكبر مساحة في المعجم البودليري، فيما يتعلق بالأبعاد المقترنة بها، التي يروم الشاعر ولوجها، إذ يدخل ضمنها كل لازم معنى وثيق الصلة بـ:la mélancolie ، l'angoisse،l'ennui و hyponcondrie

الخ...أي يمكن أن يضاف إلى أبعادها تعدد الوسائط، كل الدلالات التي تنصب أخيرا في قلق نفسي، وعدم الرضى بوضع راهن، ألم، قلق ميتافيزيقي، وأخيراً كل ما نحمله spleen من أحوال التوتر، والتجاذب المضاد. ورب سائل يقول: لماذا لم يكتف الشاعر بـ l'ennui ، فيكفينا مشقة الغموض؟

استحالة وجود معنى محدد إلا من خلال السياق، ساعد الشاعر على جعل الكلمة مفتوحة على أبعاد شتى من جهة، ومن جهة ثانية، فـ spleen ،شيء غير قابل للتحديد، بل يتعذر إعطاؤه اسماً بعينه، دون اللجوء إلى المجاز. وقد كان بودلير فضل العنوان le spleen de paris ،حول قصائد نثره القصيرة)انظر رسالته إلى أمه). وكثيرا ما يلجأ إلى التجاذبات المضادة مستعيناً بصقل أسلوبه بأنواع من الطباق والتقفية أومن خلال لعبة المرآة بين أنا والعالم.وأيضاً اتبع في العنوان طريقة نكلزة ليست في متناول أيدي جل معاصريه من الأدباء. أوَأليس هو، ممن رفعوا من شأن آلان إدغار بو المغمور عند قومه، والمرموق عند الفرنسيين؟

الخلاصة: استنتجت شيئاً أساسياً، فبل الإقدام على مغامرة الترجمة، من

خلال المقدمات والمقالات عن بودلير، وقصائده النثرية، ألا وهو: كلما تتعانق في هذه القصائد، الأحاسيس التي انفعل بها الشاعر، في اتجاه غنائية حديثة بالنسبة إلى عصره، وتعمق مداها إلى متذوقي الشعر منفصلة عن هيمنة ذهنية باردة، إلا ونستطيع الوقوف على ميزاتها الخالص منها والأخلص، وما دون الخلوص، في مسعى الشاعر، وهو يلح في مغامراته بحثاً عن أسس راسخة لقصيدة النثر.

محمد الإحسايني

المراجع المعتمدة:

1)Baudelaire. Le Spleen de Paris. Petits poèmes en prose. Edition établie, présentée et commentée par Yves Florenne. Notes Complémentaires de Marie –France Azéma.
2
)ŒUVRES MAJEURES.Etude de Les Fleurs du Mal. Gérard Conio.

3) magazine littéraire n ° 418 Mars2000 .Le spleen, une vanité profane,par Agnès Verlet, Maître de conférence à l’Université de Provence…

4غوغل ـ الأنترني

1

الغريب

قل لي أيها الرجل الغامض الطبع: من الذي تحب، أباك، أم أمك أم أختك، أم أخاك؟

ـ مالي أب و لا أم ولا أخت ولا أخ.

ـ أصدقاءَك؟

ـ تستعمل هنا كلاماً ظل معناه عندي حتى اليوم مجهولاً.

وطنك؟

ـ أجهل في أي منطقة يقع.

ـ الجمال؟

ـ قد أحبه عن طواعية، إلهياً وأبدياً .

ـ الذهب ؟

ـ أبغضه…

ـ ويحك! ماذا تحب و الحالُ هذه، أيها الغريبُ الخارقُ للعادة؟

ـ أحب السحائب التي تمرّ…هناك…السحائبَ الرائعة .

2

يأس المرأة العجوز

شعرت المرأة المتجعـدة البشرة أنها مبتهجة للغاية، وهي تنظر إلى ذلك الصبي الوسيم الذي كان كل واحد من الناس يهفو إلى الاحتفاء به، ويسعى الجميع إلى أن يروقوا له، أن يروقوا لذلك الكائن الجميل الرهيف تماماً، مثلها، مثل تلك العجوز الطاعنة في السن، وبدون أسنان، ولا شعر.

واقتربت منه العجوز تريد أن تبتــسم له، وأن تبدو أمامـه، بشوشة المُحيّا، لكن الطفل المذعور، تمنع تحت مداعبات المرأة العجوز المتهدمة، فملأ البيتَ بوعوعاته .

وعندئذ اعتكـفت العـجوز الطيبة القلب في عزلتها الأبدية، فأخذت تبكي في ركـن من أركان البــيت قائلة في نفـسها: " واحسرتاه! لقد انصـرف عمرنا بالنسـبة إلينا، نحن الإناثَ العجائز التعساتِ في أن نروق حتى للبرآء، أما اليوم ، فإننا نرعب الأطفال الصغار الذين نرغب في محبتهم ".

3

صلاة اعتراف الفنان

أو
مجاهرة الشاعر بمبادئه

واهاً! يا لنهايات أيام الخريف وصروفه النافذة فينا! النافذةِ حتى القلبِ موطنِ الألمْ! ذلك أنها توجد في بعض الإحساسات الممتعة التي لا يستبعد الاحتدادَ غامضُها؛ فلا يوجد نصلٌ أمضى من نصل اللانهائي.

يا متعة أعظمَ من متعة مَن يعرف بصُره شساعة السماء والبحَرْ ! أيتها الوحدة، أيها الصمتُ ، يانقاوة اللازورد المنقطع النظيرْ! يهتز موكب شراعي صغير في الأفق، ويحاكي وجودي الذي لا دواء له، لحناًَ رتيباً من التماوج، من خلال صغر حجمه وعزلته.

تهجس بي كل تلك الأشياء، أو انا الذي أهجس بها) إذ يتيه الأنا سريعاً، في شساعة حلم اليقظة (قلتُ إنها تهجس بي، لكنْ موسيقياً، وبشكل ظريف، بدون حجاجات، وبدون قياسات منطقية، وبدون استنتاجات . بيد أن تلك الأفكار التي تخرج مني أو تندلق الأشياءُ، سرعان ما تصبح محتدة احتداداً شديداً.

تـُحدث الطاقةُ في اللذة الحسية تضايقاً ومعاناة إيجابية. ولا تنمّ أعصابي المتوترة جداً، إلا عن اهتزازات صاخبة ومؤلمة.

والآن، يُلهمني عمق السماءْ، صفاؤها يغيظني. يثيرني فقدانُ الإحساس بالبحَرْ، وثباتُ المشهد...واهاً! أينبغي التألمُ أبدياً، والهروبُ دوماً من الجميل؟

أيتها الطبيعة، يافتّانة القلوب بلا رحمة، يا غريمة منتصرة دائماً، إليكِ عني!

كُفي عن إغراء رغباتي والإيقاع بكبريائي! فالتخطيط للجمال، مبارزةٌ يصرخ فيها الفنان من الرعب قبل أن يُهْزَم.


4
مـفـاكـه

كان ذلك انبثاق السنة الجديدة: مزيج من الطين والثلج، جرفته ألف عربة تتلألأ بالألعاب والحلويات الملبسة بالسكر، وتزخر بالأطماع وضروب من القنوط، فقد وقع هذيان رسمي لمدينة كبيرة لأجل بلبلة دماغ أقوى المنعزلين.

وكان حمار يخب بحيوية وسط هذا الهرج والمرج واللغط، وقد ضايقه رجل فظ، مسلح بسوط. وبما أن الحمار قد استدار كعادته، حول زاوية أحد الأرصفة، فقد انحنى سـيد وسيم، مقفز الكفين، مبـرنق الحذاءين، ذو ربطة عنق منعقدة بعناء، ومحبوس في ملابس حديثة للغاية، انحنى بأبهة أمام الحيوان الوضيع، فقال له رافعاً قبعته احتراماً: " أتمناها لك سنة طيبة وسعيدة، " ثم عاد نحو رفاق غير معيــنين، والغرور باد على محـياه، كأنما ليدعوهم أن يصنفوا موافقتهم على رضاه .

ما رأى الحمار ذلك الرجل المفاكه الوسيم، بل تابع جريه في اندفاع كان يدعو إليه واجبه.

أما أنا؛ فقد كنت مأخوذاً فجأة بغيظ لا حدود له، ضد هذا الغبي الجميل، وقد بدا لي، أن ذوق فرنسا الرفيع، يعقد عليه آمالاً كبيرة.

5

الغرفة المزدوجة

غرفة تشبه حلماً،

غرفة روحية حقاً،

أجواؤها الملبدة،

ملونة بلطافة، تلويناً وردياً وأزرق.

تأخذ فيها النفس حمام استرخاء، معطراً بالأسى والرغبة. ـ ذلك شيء غسقي، من اللون المزرق والضارب إلى الورديّ؛ حلم من اللذة الحسية أثناء خسوف ما.

وللأثاث أشكال ممددة، منهوكة.

يبدو الأثاث حالماً؛ فكأنه منعم بحياةٍ نومَاشية كالنبات والجماد. تتحدُث الأقمشة لغة صامتة، كالأزهار، وكالسماوات، والشموس الغاربات.

لاشيء من سماجة فنية على الجدران. الفن المحدد والفن الوضعي شتيمة بالنسبة إلى الحلم الخالص، وإلى الانطباع غير الموضح. هنا، الكل يملك الوضوح الكافي، وغموض التناسق الممتع .

يسبح عطر فاخر, أرق، في هذه الأجواء، متناه في لطافة أريجه، تمتزج فيه رطوبة جد خفيفة، حيث الفكر الغافي قد هدهدته إحساسات آتية من وعاء نباتات المناطق الحارة.

يمطر النسيج الموصلي بغزارة أمام النوافذ وأمام السرير، ويفيض شلالات مكسوة بالثلوج.

على ذلك السرير، اضطجعت الحبيبة ملكة الأحلام. لكن كيف وُجدتْ هنا؟ ومن الذي جاء بها؟ أيّ قدرة سحرية أجلستها على عرش الحلم والتأمل واللذة الشبقية؟ ماجدوى ذلك؟ هاهي ذي مازلت أعرفها!

هاهي ذي تماماً تلك العيون التي يخترق الغسقَ لهبُها، تلك العيون الحادة والمرعبة، التي اعتدتُ على مَكْرها الرهيب! فهي تغري، وتتحكم، وتفترس نظرة المتهور الذي يتأملها. تلك النجوم التي تتطلب الفضول والإعجاب، غالباً مادرستُها. فلأيّ شيطان عطوف أدين بان أكون هكذا محاطاً بالغموض، وبالصمت، والراحة والعطر؟ يا طوبى! فما نسميه عموماً بالحياة، حتى في امتدادها الأسعد، لا جامع بينه وبين تلك الحياة العليا التي أملك عنها الآن معرفة ما، وأتلذذ بها دقيقة بعد دقيقة، وثانية بعد ثانية!

كلا! لا يوجد هناك من دقائق، ولا يوجد بتاتاً من ثوان! لقد انمحى الزمن؛ فالخلود هو الذي يسود، خلود من المباهج!

لكن ضربة رهيبة ثقيلة دوّت بغتة على الباب، وبدا لي أنني تلقيت ضربة معول على المعدة مثلما الحال في الأحلام الجهنمية، ثم دخل شبح، ذلك هو منفذ أحكام، وعذبني تلك الساعة باسم القانون، فشكت إليّ الآن بؤسَها، خليلة شائنة؛ فما زادت سوى أن أضافت مباذل حياتها إلى آلامي، وبالتالي جاء ساعي مدير جريدة يلتمس مني بقية المقالة التي خططتها.

الغرفة الفردوسية، والعشيقة، ملكة الأحلام السلفيدة، كما يقول روني الأكبر...كل تلك الفتنة اختفتْ بضربة عنيفة قرع بها الشبح الباب.

يا للهول! إني أتذكر! إني أتذكر! أجل! هذا الكوخ القذر، وهذه الإقامة للسأم، وبالتأكيد، هو سأمي. هاهو ذا الأثاث السخيف المغبر، والمهشم؛ فالمدخنة بدون لهيب، وبدون جمر، منزوعة، وملطخة بالبصاق: النوافذ التي حط عليها المطر أخاديد على غبارها.

والمخطوطات الممحوة، أو غير المتممة، والرزنامة التي سجل عليها قلم الرصاص، التواريخ الحزينة.

وهذا العطر الآتي من عالم آخر، الذي ما زلتُ أثمل به في رقة متناهية، وا أسفاه! لقد عُوّض عنه برائحة تبغ كريهة ممزوجة لا أدري بأي رائحة مغثية أقارنها. إنني أتنفس هنا الآن، عفونة الأسى.

في هذا العالم الضيق، بل المليء بكثير من التقزز، شيئ واحد معروف يبتسم لي: قارورة مستخلص صبغة كحول الأفيون، وهي صديقة قديمة ومرعبة، مثل جميع الصديقات، وا أسفاه! إنها مخصبة في مداعبات الحب وفي الخيانات.

آهٍ! لقد تذكرت! فقد ظهر الزمن مجدداً؛ الزمن يسود الآن ملكاً؛ وعاد مع العجوزالبشع تماماً، موكبُه الشيطاني من الذكريات، ومن الحسرات، ومن التشنجات، من المخاوف وأنواع القلق، والكوابيس، من الغضب وأنواع العُصاب.

أؤكد لكم أن الثواني الآن تتحرك بقوة، وبأبهة، وكل واحدة منها تعلن، وهي تنساب من البندول:" أنا الحياة العنيدة التي لاتحتمل!"

لايوجد هناك إلا ثانية في الحياة الإنسانية عسى يكون لها مهمة الإعلان عن خبر سار، الخبر السار الذي يسبب لكل واحد من الناس، خوفاً يتعذر شرحه.

أجل! إن الزمن يسود؛ فقد استأنف ديكتانوريته القاسية.

ويدفعني بمنخسه المزدوج، كأنني قد أكون ثوراً ، صارخافي وجهي ـ " هيا! انطلق أيها البليد! تصببْ عرقاً، ياعبد! عش إذن أيها المعذب! "


6

كل واحد وخرافته

تحت سماء واسعة الأرجاء رمادية، وفي سهل مغبر، بدون مسالك، ولا حشائش"غازون"، خال من أي شوكة وبدون نبتة قرّاص، سألتقي عديداً من الرجال يمشون مقوسي الظهر.

كل واحد منهم يحمل فوق ظهره خيمراً ضخماً، أثقل أيضاً من كيس طحين الفرينة، أومن كيس الفحم، أو أثقل من عتاد جندي روماني من المشاة.

لكن الوحش المخيف لم يكن حملاً جامداً بل بالعكس، فهو يطوق الإنسان ويُخضعه بعضلاته المطاطية والقوية، فيتشابك بمخلبيه الضخمين على صدر مطيته، وتعتلى رأسُه الأسطورية جبهة الإنسان، مثل إحدى قبعاته البشعة التي كان المحاربون القدماء يأملون بواسطتها، أن تضاف إلى وسائل ترهيب العدو.

استفهمت واحداً من أولئك الرجال، فسألتُه أين يذهبون. أجابني أنه لا يعرف عنهم شيئاً، لا هو، ولا الآخرون؛ بل إنهم كانوا يسيرون إلى جهة ما، حيث إنهم مدفوعون بحاجة إلى المشي لا تقهر.

شيء غريب جدير بالملاحظة: لا أحد من أولئك المسافرين كان يبدو عليه أنه غير حانق على ذلك الحيوان الوحشي المعلق على رقبته، والملتصق بظهره. فقد قيل إن ذلك الحيوان يعتبر جزءاً من جسمه بالذات. لا تبدي تلك الوجوه المتعبة والرزينة، أي قنوط تحت القبة السوداوية للسماء، فأقدامهم إذن ممددة في غبار أرض مقفرة مثل هذه السماء، وكانت تسير في هيئة مستسلمة، سيرَ أولئك الذين حُكم عليهم أن ينتظروا دائماً.

ومر الموكب أمامي، وتوارى في أجواء الأفق الذي تختفي فيه مساحة الكوكب المستدير عن فضول النظرة الإنسانية، وخلال بضع لحظات، أصررتُ على الرغبة في أن أفهم ذلك السر الغامض، لكن ، سرعان ما انهارت اللامبالاة التي لا تقاوم، وكنت أشد إرهاقاً، بأكثر بلادة مما لم يوجدوا عليه هم أنفسهم من خلال إرهاق خياميرهم لهم .


7

فينوس والمجنون

ياله من يوم جميل! تتفتح الحديقة واسعة الأرجاء تحت عين الشمس المحرقة كما تتفتح الخواطر في شرخ الشباب تحت سلطان الحب.

إن الافتتان بالأشياء الجميلة جميعها لا يعبر عن نفسه من خلال أي لغط؛ فالمياه ذاتها تخالها هادئة. إن هاهنا لعربدة صامتة مختلفة اختلافا عن ولائم البشر.

قد يحسب المرء أن ضوءاً تدريجياً يوقد الوجد في الأشياء، وأن الأزهار التي مستها اللوعة تحترق شوقاً من الرغبة في مجاراة اللازورد السماوي بقوة ألوانها، وأن الحرارة تجعل بَِخور العطور مرئياً، وتتوسل به تجاه كوكب الشمس في ابتهال روحاني.

إلا أنني شاهدتُ كائناً كئيب الفؤاد في هذه المتعة الشاملة؛ يرتمي بين قدمي فينوس العظيمة، شاهدت واحداً من أولئك المجانين المكلفين بإضحاك الملوك عندما تستبد بهم الندامة أو السأم، شاهدته يرتدي زياً صارخة ألوانه، ومضحكة، يزين رأسه بالقرون والأجراس، ويشد أنفاسه متحفزاً تجاه قاعدة تمثال فينوس، يرفع عينين يغمرهما الدمع نحو الإلهة الأبدية وتتوسل عيناه:ـ " أنا أتفه الخلق، وأكثر البشر انزواءً عن الناس، محروم من الحب والصداقة. ثم إنني في أسفل سافلين تحت أرذل الحيوانات. في حين أنني خُلقتُ لأدرك الجمال الأبدي وأحس به! واهاًَ! أيتها الإلهة، ألا أشفقي على حزني وولهي! "

غير أن فينوس القاسية القلب، تنظر إلى مسافة بعيدة، إلى شيء ما، بعينيها المرمريتين.


8

الكلب والقارورة

" كلبيَ الجميل، كلبي الطيبَ، يا جرويَ العزيز، تعال ادْنُ مني فتستنشقَ عبيراً من عطر رفيع ابتعته عند أحسن تاجر عطور في المدينة."

وترى الكلب، وهو يهش إليّ بذيله، مما يعتبر عند هذه المخلوقات الضعيفة، على ما أعتقد، بمثابة إشارة تعادل الضحك والابتسام، تراه يتقرب إليّ ويضع أنفه المبلل بفضول على القارورة المفتوحة؛ ثم يتراجع بشكل فجائي، فينبح في وجهي بطريقة تـُبين عن لومه لي.

" آه!ـ أيها الكلب الحقير، لو كنتُ قدمتُ إليك علبة من الفضلات لكنتَ اشتممتَها بالتذاذ، ولربما التهمتَها باشتهاء، حتى إنك أيها الرفيق غير الجدير بالمرافقة في حياتي الكئيبة، لتشبه الجمهور الذي لا ينبغي لي أبداً أن أقدم إليه عطوراً رفيعة تـُسخطه، بل نفاياتٍ مختارةً بعناية .


9

الزجّاج الرديء

ببساطة، هناك طبائع تأملية وغير ملائمة كلياً للعمل، غير أنها تفعل فعلها أحياناً بسرعة قد تجعلها غير كيّسة وعاجزة، تحت إغراء خفي ومجهول.

إن من يتسكع في ارتخاءٍ، ساعة ًمن الزمن أمام بابه، دون أن يتجرأ على الدخول إلى بيته مخافة َأن يعثر على نبإ محزن عند بوابه، ومن يحتفظ برسالةٍ خمسة عشر يوماً دون أن يفض ختامها أو لا يستسلم لرغبته إلا في رأس ستة أشهر للقيام بمسعى ضروري منذ مُضي عام، ليحسان أحياناً بأنهما مستعجلان بشكل مباغت، تدفعهما قوة لا ترد، كسهم قوس.

لا يستطيع عالم الأخلاق والطبيب اللذان يدعيان المعرفة أن يوضحا من أين تأتي قدرة هائلة على حين غرة، إلى تلك النفوس الخاملة، والمحبة للملاذ الحسية، وكيف، وهما العاجزان عن إكمال أبسط الأشياء وأكثرها ضرورة، فتجد تلك الطبائع في بضع دقائق شجاعة غير عادية لتنفيذ أكثر الأفعال عبثاً، وحتى أشدها خطورة أحياناً.

أشعل أحد أصدقائي ـ ربما كان أكثر الحالمين غير المؤذين وُجد على هذه الأرض ـ ذات مرة النار في غابة، ليرى فيما إذا كانت ألسنة اللهب تندفع بكثير من السهولة التي يتأكد بها اندلاعها. أخفقت التجربة عشر مرات، لكنها نجحت نجاحاً باهراً في المرة الحادية عشْرة.

ويشعل صديق آخر سيكاراً بجانب برميل بارود، ليرى، ويعرف، ويجرب القـَدر، فيجبر نفسه هو بالذات، على القيام بتجربة القدرة على ذلك، وليمثل المقامرَ بمبالغ كبيرة، ومن أجل أن يعرف متعة التلهف على لاشيء، من خلال النزوة وانعدام الشغل.

إن ذلك نوع من المقدرة التي تنبثق من الضجر وأحلام اليقظة، فالذين تتجلى فيهم تلك الرغبة بعناد شديد، هم في الغالب ، كما ذكرتُ، أكثر الناس ليناً وأكثرهم حلماً على وجه البسيطة.

ويخجل صديق آخر، إلى ذلك الحد الذي فيه يغضبني ببصره أمام أنظار الرجال، إلى ذلك الحد الذي فيه ينبغي له، تجميع إرادته الضعيفة كلها للدخول إلى مقهى، أو المرور أمام مكتب مسرح يبدو له فيه المراقبون كأنهم تقلدوا منصب قضاة العالم السفلي، بمهابة مينوس وعياق ورادمنث، وسيثب بغتة على عنق رجل عجوز يمر أمام الجمهور المندهش.

لماذا؟ لأن تلك السحنة كانت ودوداً له، بشكل لا يقاوم، لكنها أكثر شرعية على افتراض أنه هو ذاته، لا يعرف لماذا.

لقد كنت أكثر من مرة ضحية هذه النوبات، وهذه الاندفاعات العاطفية التي تبيح لنا الاعتقاد أن شياطين خبثاء يحبذون لنا القسق ويندسون في نفوسنا الأمارة، فيجعلوننا نـُخضع لجهلنا رغائبهم الأكثر عبثاً.

كنت ذات صباح، قدنهضت من نومي مقطب الجبين، حزيناً، متعباً من وقت الفراغ، ومدفوعاً على مايبدو، إلى القيام بشيء ذي قيمة، عملٍ مأثور، ففتحتُ النافذة، وا أسفاه!

)لاحظ ،أرجوك، أن طبيعة الخداع التي ليست نتيجة عمل أومشاركة؛ بل استلهاماً فجائياً ينجم غالباً ـ ربما لم يكن ذلك إلا من احتدام الرغبة ـ عن هذا المزاج الهستيري حسب ادعاء الأطباء الكلاسيكيين، والشيطاني، حسب رأي أولئك الذين يظنون أنفسهم أحسن قليلاً من الأطباء، والذين يدفعوننا بلا مقاومة منا نحو العمل المتهور الخطير أو العمل غير اللائق.(

كان أول شخص شاهدته في الشارع زجّاجاً صيحتـُه تشق عنان السماء، صيحة ٌ متنافرة المقاطع، تصاعدت إليّ عبر الجو الباريسي الخانق والقذر. قد يستحيل عليّ من جانب آخر، أن أعلل لماذا كان قد انتابني بخصوص هذا الرجل الضعيف حقد مفاجئ سريع أيضاً، سرعته بقدر هيمنته على كل شيء.

" يا هذا! على رسلك! " وقد صحتُ به أن اصعدْ. غير أنني كنت أفكر غير بعيد عن بعض الابتهاج، إذ على الرجل أن يواجه صعوبة ما، في عملية صعوده، وأن يربط في عدة جوانب، زوايا بضاعته الرهيفة، فالغرقة توجد في الطابق السادس، والسلالم جد ضيقة.

وأخيراً ظهر: فحصتُ بفضول لوحاته الزجاجية جميعها، فقلت له: " كيف؟ أوَليس عندك من زجاجاتٍ بالألوان؟ زجاجات وردية حمراء، وزرقاء، لوحات زجاجية سحرية، ولوحات زجاجية غيرها فردوسية؟ يالك من سفيه! إنك تتجرأ على التجوال في الأحياء الفقيرة، وليس عندك ولو لوحات زجاجية قد تجعل المرء ينظر إلى الحياة في تفاؤل! " فدفعته في سرعة نحو السلم الذي تعثر فيه وهو يدمدم بكلمات.

اقتربتُ من الشرفة، فقبضت على أصيص صغير من الزهور، فلما لاح لي الرجل مجدداً من منفذ الباب، تركتُ آلتي الحربية تسقط عمودياً على حافة ظهر معاليقه الزجاجية فتصرعه الصدمة، لقد كسر أصيص الزهور، تحت ظهره، ثروته الضئيلة الرديئة كلها، التي جعلت الضجيج المدوي لقصر بلوري متصدعاً من ضربة الصاعقة.

ليست هذه المجونات العصبية بلا خطورة، بل يمكن أن يؤدي عنها المرء غالياً. لكن ماذا يهم الخلود في العذاب لمن وجد له المتعة في خلود ثان؟


10

في الواحدة صباحاً

أخيراً! ها أنذا وحدي! لا يسمع المرء إلا دوران عجلات عربات فيكر المتأخرة والمتعبة. وسننعم بالهدوء خلال بضع ساعات، بل بالراحة. أخيراً لقد غاب طغيان الجانب الإنساني، ولن أتعذب إلا من خلالي أنا بالذات.

أخيراً! يجوز لي أن أتسلى بحمام من الظلمات! أولاً هناك دوران مزدوج للقفل. و يبدو لي أن ذلك الدوران للمفتاح سيزيد من شعوري بالعزلة، وسيعزز الحواجز التي تفرقني حالياً عن العالم.

يا للحياة الرهيبة! ويا للمدينة الرهيبة! فلنراجع حصيلة اليوم بإيجاز: لقد رأيت كثيراً من الأدباء, سألني واحد منهم فيما إذاكان يمكن للمرء أن يذهب إلى روسيا عن طريق بريّ) يحسب روسيا بلا شك جزيرة ما ( ؛ واجهتُ بمروءة مدير مجلة، فكان في كل اعتراض يجيب: " ههنا طائفة من أناس شرفاء "، وهو ما يتضمن أن جميع الجرائد الأخرى، حررها أناس أنذال؛ سلمت على نحو عشرين من الأشخاص، منهم خمسة عشر شخصاً أجهلهم؛ اصطفت قبضات أيديهم في نفس مستواها، وذلك بدون اتخاذ الحيطة لشراء قفازات؛ ثملتُ في بيت بهلوانية وثابة، كي أقتل الوقت أثناء مطر وابل، فطلبت مني أن أرسم لها بذلة مضحكة؛ وقمتُ بتملقي لمدير المسرح، الذي قال لي صارفاً عنه إياي: " لعلك فعلت حسناً بتوجيهك الكلام إلى : Z ...؛إنه أثقل الناس وأكثرهم حمقاً، وأشهر كتـّابي المؤلفين جميعهم؛ به ربما يمكنك أن تبلغ شيئاً ما. فعليك به، ثم بعد ذلك سنرى. "

مبجل ٌ أنا؟ ) لماذا؟ (بالعديد من الأعمال البشعة التي لم أرتكبها أبداً، وقد أنكرت دنيئاً بعض الأعمال السيئة الأخرى التي نفذتها مبتهجاً، أنكرت جنحة المتشدق والجريمة المتعلقة بالاحترام الإنساني؛ رفضتُ أداء خدمة سهلة لصديق، وأعطيتُ توصية مكتوبة إلى إنسان معصوم من العيوب غريب؛ أفٍّ! فهل انتهى ذلك؟

ولما أنا غير راض عن الجميع، ولا عن نفسي، فربما تساورني رغبة شديدة في أن أسترد شرفي وأنا أتباهى قليلاً في سكون ووحشة الليل.

يا أرواح عتبات القديسين الذين أحببتهم، يا أرواح أولئك الذين أمجدهم، عززوني، ساندوني، كونوا لي، أبعدوا عني البهتان وأبخرة العالم الفاسدة؛ وأنت أيها الرب, يا إلهي! هب لي من لدنك نعمة إنتاج بعض الأشعار الرائعة التي تثبت لي أنا بالذات، أنني لست بأسوإ الرجال ولا بأسفل أولئك الذين أحتقرهم.

11

المرأة المتوحشة والغانية المغناج

حقاً يا عزيزتي، إنك ترهقينني إرهاقاً مفرطاً وبلا شفقة، فكأن من سمعكِ تتـنهدين، يظن أنك تتعذبين أكثر من لاقطات السنابل الفلاحات الستينيات، وأكثر من العجائز المتسولات، اللائي يلتقطن فُتات الخبز، على أبواب الملاهي .

" لو كانت توجعاتكِ على الأقل، تعبر عن تحسراتكِ، لأ ضفتْ عليكِ بعض الشرف، لكنها لا تعبر سوى عن الملل من الرفاهية، والضجر من الراحة. فضلاً عن ذلك، لا تفتئين تلقين عليّ كلاماً غير مفيد: " أحبّني جيّداً؛ فإنـني في أمسّ الحاجة إلى ذلك! خففْ عني لوعتي من هنا، لاطِفني من هناك! " انظري، سأحاول إشفاءكِ؛ فربما توجد وسيلة علتك، بقرشين اثنين وسْط تسلية، وبدون الذهاب بعيداً.

"تأملي – أرجوك – ذلك القفص المتين من الحديد، فوراء قضبانه يتأجّج مَن حُبِسَ فيه، يصرخ صراخ أحد الهالكين، يزعزع قضبانه، مثل قرد غاظه المنفى، تارة تحاكي قفزاته، في إتقان تقليده، وثباتِ النمر، وتارة أخرى، تمايُلاتِ الدبّ الأبيض الثقيلة، فذلك الوحش، كاد شكله يشبه شكلك،

ذلك الوحش المخيف، واحد من تلك الحيوانات التي تُدْعى غالباً " ملاكي! "، أعني امرأة. أما الوحش الآخر- ذاك الذي يصرخ صراخاً شديداً، وبيده عصىً – فهو زوجٌ ما. لقد كبّل زوجته الشرعية كأنها وحش، ويكشف عنها في الأحياء، أيام السوق بإذن من الولاة، وهذا شيء طبيعي.

انتبهي جيداً! وانظري إلى أي شراهة )لعلها شراهة غير مصطنعة (تمزق بها تلك المرأة، الأرانب الحية، والطيور المتزقزقة، التي يُلقي بها إليها فيّالها، فينصحها: " هيا، لا ينبغي أن تلتهمي كل مئونتك في يوم واحد ". وعلى أساس هذه الحكمة، أزال لها بقسوة، الفريسة التي تلوح أمعاؤها الممزقة، معلقة تلمع لحظة بين أسنان الحيوان المفترس، أعني أسنان المرأة. " هيّا! إن هي إلاّ ضربة واحدة؛ فيهدأ صراخها! ذلك أنها تقذف من عينيها الرهيبتين المركزتين على الطعام المنزوع من بين أنيابها، شراراتِ الاشتهاء.

عجباً! العصى ليست عصى للضحك. ألم تسمعي لحمها يعوي بالرغم من الزغب المستعار! الآن تجحظ عيناها، وتصرخ بفطرتها صراخاً شديداً. وتزند في غيظها بكاملها، كالحديد يدق عليه حامياً.

تلك هي السلوكات الزوجية لهذين المنحدرين من آدم وحواء، خليقة يدك يا إلهي! هذه المرأة شقية بلا منازع، ولو بعد كل ماجرى، فلربما لا تعرف طعماً لنِعَم المجد التي تدغدغها. هناك أنواع من الشقاء أشد وخامة من أن تكون قابلة للعلاج، وبدون ثواب على الابتلاء بها. لكنها ما كانت لتعتقد أبداً، أن المرأة تستحق مصيراً آخر، في هذا العالم الذي ألقيتْ فيه.

و الآن، قد جاء دورنا، عزيزتي المغالية! حين أرى جهنم التي ازدحم فيها الناس تتقد، ماذا تريدين أن أراه في جحيمك الجميل، أنتِ التي لا تجدين راحتك، إلا على فُرُش ناعمة مثل بشرتك، ولا تأكلين إلا اللحم المطبوخ، وحتى يقطعه لك، أجزاءً بلباقة، خادمٌ مهندم؟ " وما عسى تعني بالنسبة إليّ، تلك الأنّات الصغيرة التي يتنهد بها صدرك الفوّاح بالعطر، أيتها المغناج المتمكنة؟ وكل هذه العواطف المستقاة من الكتب، وذلك الضجر غير المتعب، المفتعل، كي توحي كلها لمن يشاهدك، تماماً، بإحساس آخر، عدا الشفقة؟ وإنه لتنتابني الرغبة أحياناً في أن ألقنك: ما هو الشقاء الحقيقي. غادتي اللطيفة، حين تنغمس رجلاك في الوحل، وتلتفت عيناك برهافة روحية نحو السماء، فكأنما لتطلبي إليها أن تهب لك* مَلِكاً، وكأنما أنتِ على الأرجح، ضُفَيدعة خرافية تلتمس المثل الأعلى. فإذا أنتِ احتقرتِ الرافدة) وأنا الآن تلكِ الرافدةُ كما تعلمين(؛ فحذارِِ من الكركي الذي سيقضمكِ ويقتلكِ كيفما يشاء.

" مهما أكنْ شاعراً؛ فلستُ مخدوعاً كما تعتقدين، وإن تُتْعبيني بدموعكِ المفتعَلة، أعاملْكِ معاملة امرأة متوحشة أو أقذفنّ بك، من النافذة كقنينة فارغة".

12

الحشود

لم يتيسر لكل واحد من الناس أن يستحم في حمام السوقة: فالاستمتاع بالجمهور فن، وذلك وحده يمكن أن يحدث تهتكاً حيوياً على حساب الجنس البشري، في مَن بثت فاتنة في مهده، مذاق التنكر والقناع، وبغضاء الإقامة، وولعاً بالرحلة.

طائفة من البشر والوحدة: حدان متساويان قابلان للتحويل بالنسبة للشاعر النشيط والمخصب. إن من لا يعرف أن يملأ عزلته، لا يعرف فقط أن يوجد بمفرده في ضمير جمهور عنه متشاغل.

يستمتع الشاعر بهذه الميزة منقطعة النظير، حتى يتمكن على هواه، أن يكون هو ذاته والآخرين غيره، شأنه شأن هذه الأزواج التائهة التي تبحث عن جسد ما، يسري وقتَ يشاء في شخصية كل واحد من الناس تتقمصه. فكل شيء فارغ بالنسبة إليه وحده، لو بدا له عدد من الأماكن مغلقاً، فلأنه يسقط من عينيه ولا يستحق الزيارة. يجتنب المتنزه المنزوي على نفسه والمستغرق في تفكيره، انتشاءً فريداً لنفسه، بتلك المشاركة الشاملة.

أما ذلك الذي يقترن ذكره بالجمهور في سهولة، فيعرف المُتـَع المحمومة التي ستـُحرّم إلى الأبد، على الأناني المنغلق كخزانة، والخامل، المحجوز عليه في قوقعة كالرخويات. يتبنى على حسابه المهن جميعها، وكل أنواع الأنشطة وكل أنواع البؤس التي تقدمها إليه الظروف.

إن ما يسميه البشر بالحب ضئيل جداً، وجد ضيق، وجد ضعيف، مقارناً بهذا التهتك الفاحش الذي لامثيل له، وبهذا البغاء المقدس للنفس الذي يفرغ جهده كله على الشعر والمحبة، وعلى غير المنتظر الذي ينكشف، والمجهول الذي يحدث.

جميل تلقين البشر المحظوظين أحياناً في هذا العالم أن حظوظاً ممتازة وُجدتْ أوسع وأصفى لخاصيتهم. و ما كان ذلك إلا لإذلال كبريائهم النزق لحظة ما. فمؤسسو المستعمرات وقادة الشعوب، والرهبان المبشرون المغتربون في أقاصي العالم يعرفون بلا ريب شيئاً ما، عن هذه الانتشاءات الغريبة، وسيضحكون أحياناً في حضن الأسرة المنيفة التي تكونت فيها عبقريتهم، على أولئك الذين يبخلون عليهم من أجل ثروتهم المتقلبة، ومن أجل حياتهم العفيفة بهذا الحد.

13

الأرامل

يقول فوفنارغ توجد في الحدائق العمومية مسالك مسكونة بالطموح المحبط خاصة، وبالمبتكرين الأشقياء، وبالأمجاد الخائبة، وبالقلوب المنكسرة، وبكل هذه النفوس الصاخبة والمنغلقة، التي مازالت تدمدم عليها التنهدات الأخيرة لعاطفة ما، وهي ساخطة، والتي تتنامى بعيداً عن النظرة الكبيرة للناس المتنعمين وأصحاب أوقات الفراغ، فتلك الخلوات الظليلة، هي مواعيد المعطوبين في الحياة.

يوجد ذلك بالخصوص في تجاه تلك الأماكن التي يحب الشاعر والفيلسوف أن يوجها إليها تخميناتهما الطموحة. هناك غذاء روحي مؤكد. إذ لو وُجد مكان يحتقران زيارته، كما كنتُ ألمّح إليه بعد قليل، لكان بالخصوص مكان إقامة مباهج حفل الأغنياء.

فهذا الصخب في العراء ليس فيه شيء يجتذبهما. وبالعكس من ذلك، فهما يحسان أنهما منجذبان رغماً عنهما نحو كل ما هو ضعيف، ومفلس، وحزين، ومحروم.

في هذه القسمات الصلبة، أو الخائرة القوى، وهي هذه العيون المجوفة والذائبة، أو اللامعة بآخر ومضات الصراع، وفي هذه المشيات البطيئة أو المهتزة إلى هذا الحد، لا تنخدع عين تجريبية بذلك أبداً، بل تكشف فوراً عن خرافات الحب المخدوع التي لا تحصى، والتفاني المتنكر له، والجهود غير المثوبة، والجوع والبرد المتحملين بخضوع وصمت.

هل رأيت أحياناً أرامل فوق هذه المقاعد المنعزلة، أرامل فقيرات؟ مهما يكـنّ في حداد أو عدمه، فإنه سهل التعرف عليهن، أضف إلى ذلك أنه يوجد دائماً في حزن المخلوق الضعيف شيء ما، ينقص، وغيابٌ للانسجام يجعله أشد إيلاماً. فهو مجبر على أن يضن بماله. أما الرجل الغني، فيحوّل ألمه إلى الهندام المَهيب.

من هي الأرملة الأشد حزناً والمحزنة أبلغ حزن، أتلك التي تجرجر في يدها طفلاً صغيراً لا تستطيع أن تقاسمه حلمها، أم تلك الأرملة التي توجد على انفراد تماماً؟ لا أدري... لقد حدث لي أن تتبعت مرة عجوزاً كئيبة الفؤاد من هذا النوع، أثناء ساعات طوال، تلك العجوز المتصلبة، والمنتصبة تحت شال مستعمل، وكانت تحمل في كل كيانها إباء الأرملة الصابرة في الضراء.

كانت محكوماً عليها طبعاً بعزلة تامة، على غرار عادات العازب المسن، وكان الطبع الذكوري لسلوكها يضيف سراً مهماً إلى تقشف العوانس. تتبعتها في مكتبة للقراءة رخيصة السعر، لقد راقبتها زمناً طويلاً الوقتَ الذي كانت تبحث في الجرائد، عن أخبار منفعة شخصية وذات اعتبار، بعينين نشيطتين مُحرَقـَتين قِدْماً بالدموع.

أخيراً، وفي الزوال، جلست على انفراد في حديقة بعيدا عن الجمهور، لسماع تناغم من تلك التناغمات التي تجود بها موسيقى حفلات أفواج الجنود على الدهماء في باريس، تحت سماء الخريف الفاتن وتحت سماء من تلك السماوات التي تتنزل فيه الحسرات والذكريات أفواجاً.

كان ذلك بدون شك، التهتكَ المصطنع لهذه العجوز البريئة، والعزاءَ الذي كسبته كسباً في يوم من هذه الأيام الثقيلة بلا صديق، وبلا تبادل حديث، وبلا فرح، وبدون نجيّ ربما حباها به الله منذ سنين طويلة! ثلاثمائة وخمساً وستين مرة في العام.

أرملة أخرى أيضاً:

عموماً، لا أستطيع أن أثني نفسي عن إلقاء نظرة ـ إن لم تكن ودية، فعلى الأقل فضولية ـ على حشود من المنبوذين الذين يتزاحمون حول حفل عمومي. فالجوق يصدح عبر الليل بأغاني العيد، وبالنصر أو بالملاذ الحسية. تنجر الفساتين متألقة، وتتلاقى النظرات، فيتمايل أصحاب الأوقات الفارغة المتعبون لعدم قيامهم بشيء ما، ويتكاسلون في تراخ عن تذوق أنغام الموسيقى، فلا أحد هنا سوى الإنسان الغني، والإنسان السعيد، ولا أحد يتنشق أو يتنفس عبير وزفير الاستهتار والمتعة ليعيش بلا هم يشغل البال، لا أحد سوى منظر هذه الدهماء التي تستند هناك على الحاجز الخارجي بالمجان، تلتقط بإعجاب متقطعات موسيقية بالرغم من الريح، وتنظر إلى اشتعال الأتون الداخلي المتلألئ.

ذلك شيء مهم دائماً أن تكبر فرحة الإنسان الغني في عمق عين الإنسان الفقير، غير أنني شاهدت يوم ذاك ـ عبر هؤلاء الناس المرتدين بذلات عمل وأزياء نسائية بسيطة من القطن ـ كائناً كان نبل شرفه يُحدث تبايناً صارخاً مع أي سوقية محدقة به.

كان ذلك الكائن امرأة عظيمة مهيبة، ونبيلة تماماً في مظهرها، وليس لي من ذاكرة تذكر أنني قد رأيتُ مثلَها في المقتنيات من روائع الماضي الارستقراطية، يضوع عطر عفة أبية من شخصها كله. وكان وجهها الحزين والنحيف في انسجام تام مع ثوب الحداد الذي كانت قد ارتدته، وهي أيضاً مثل الرعاع الذين كانت قد اختلطت بهم، والذين لم تكن تراهم، فكانت تنظر إلى مشاهير الناس بنظرة عميقة، وكانت تنصت محركة بلطف رأسها.

رؤية فريدة! قلتُ في نفسي: " حتما إن ذلك الفقر إن وُجد، في ذات الوقت؛ فلا ينبغي الرضى بالاقتصاد المتين، " فيجيبني عن ذلك وجه نبيل جداً: " فلماذا هي تبقى عمداً وسط َ تقوم فيه بمهمة لامعة إلى حد ما؟ "

لكن، اعتقدتُ أنني تنبأت بالسبب ماراً حولها بفضول. كانت الأرملة العظيمة تمسك طفلاً بيدها، حيث ارتدت السواد؛ وكيفما كان سعر الدخول إلى الحفل زهيداً، فربما كان هذا السعر على زهده، يكفي لتسديد حاجة من حاجات الكائن الصغير، وأحسنُ أيضاً، ما فضل عن الحاجة، ولعبة ٌ ما.

وستدخل ماشية على قدميها، تتأمل وتحلم، وحيدة ً ودائماً وحيدة ً، ذلك أن الطفل مشاغب، وأناني، بلا وداعة في طبعه ولا اصطبار، حتى إنه لا يستطيع كالحيوان الخالص، وكالكلب والقط، أن يساعد صاحبه الحميم على الآلام التي يكابدها.

14

المهرج العجوز


ما زال الناس ينتشرون في كل مكان، يظهرون ويبتهجون أيام العطل. وكان ذلك عيداً من تلك الأعـياد الاحتفالية التي يعول عليها المهرجون، صانعو المخارط، وعارضو الحيوانات، وأصحاب الدكـاكـين المتجولون زمنا طويلاً، تعويضاً عن سوء الأحوال الجوية للسنة.

يبدو لي أن العامة هذه الأيام تنسى كل شيء، تنسى الألم والشغل، ويصبح الأمر كذلك بالنســبة إلي الأطفال، وبالنســبة إلى الصغار، فهو يوم إجازة، وهو الرعب اليومـي من المدرسـة الذي مرده إلى أربع وعشرين ساعة.

وبالنسبة إلى الكبار، فهو هدنة أبرمت مع قوى الشر في الحياة، وتوَقف ٌعن العناد والصراع الشاملين .

ينجو رجل المجتمع ذاته، والرجل المشغول بالأعمال الروحية بصعــوبة من تأثـير ذلك اليوبـيل الشعبي. إنهما يمتصان دون أن يرغـبا في ذلك، نصيبهـما من هذا الجـو الاستهـتاري، وبالنسـبة إليّ كباريسي حقيقي؛ فلا ينـقص أن أفحـص كل البـيوت الحقـيرة التي تمشـي اختـيالاً في هذه الأيام الاحتفالية. فظلت تتنافس حقاً فيما بيــنها منافسة عجيبة: تتصايح، وتزعق، وتعوي بدون انقطاع.

كان ذلك مزيجـاً من الصرخـات، ومن الآلات النحاسية النافخة، وفرقعات السـياط، وما انفك أصحاب الذيول مـن الشـعر المـعقود بعــقدة حمراء، والمهرجون المغفلون يشنجون قسمات وجوههم السمراء، البردُ قسا عليهم، والمطر والشمس، وكاـنوا يلقـون نكثـاً وطـرائف من أفانين القول هزلية، متـينة وثــقيلة، تشـبه هزليـات موليير، يلقــونها بثيمات الممثلين الواثقــين بتأثـيرهم على الجـمهور... والأبـطال الهراقل مزهوون بـتزايد أعدادهم، وهم بلا جباه ولا جماجم، كأنهم وحوش الغابة من القردة، ظلوا يتبخترون في أبهة تحت القماطات المغسولة عشية َ تدعو الحاجة إلى ذلك. ومازالت الراقصات الجميلات، شبيهات الغيد الفواتن، يثبن ويتشقلبن تحت ضوء الفوانيس التي كانت تملأ تنوراتهن ألقاً .

لم يكن كل شيء إلا ضوءً وغباراً، وصرخات ٍوفرحاً وصخباً. وما فتــئ بعض الـناس ينفــقون, وآخرون يكــسبون، كذلك؛ فإن الأوليــن والآخـرين مرحون، وظل الأطفال يتعلقون بتنورات أمهاتهم ليشاهدوا أفضل مشاهدة، مشعبذاً متألقاً زاهياً مثل إله، وكانت تطغى على جميع العطـور، رائحة طعام مقلي، كأنه بَخور هذا العيد .

عن كثب، وفي الطرف الأقصى من صف الأكواخ، رأيت مهرجـاً فقير الحال، مقوس الظهر، متساقط الشعر، متداعي الجسم، خائر القوى، عجوزاً عفا عليه الزمن، رأيتُ تهدمـاً إنسانــياً، كأنـما أزيلت عـنه هو نفسُه؛ وذلك عار، جميع تلك المهابات، رأيته يسـتند إلى أعمـدة مخبئه، مخبإ ٍ أشد بؤساً من مخبإ المتوحـش الأبله بلاهة أشـد، الذي كانت ثروته الزهيدة تتبدد ولا تزال تنير أيام شدته الكالحة .

الفرح في كل مكان، والكسب والفجور في كل مكـان، لقد تحقق الخبز للأيام التالية، والانفجار الحيوي المسـعور في كل مكان، هنا الفقر المدقع، والتعاسة المرتداة بغرابة، زيادة في الرعب، والأسمال المضحكة التي كانت الضرورة قد مهدت فيها للتناقض، إضافة إلى الفن. ما كان يضحك، فياله من بئيس ! ولا كان يبكي، ولا كان يرقص أو يومئ بحركات، أو يصرخ، أو يغني أيّ أغنية، لا مرحةٍ أوداع أمرُها للرثاء، ما كان يتضرع، كان أخرس، وغير متحرك في مكانه. كان قد زهد، وكان قد اعتزل، فمصيره قد حُِسمَ فيه.

لكنْ، أيّ نـظرة عمـيقة، غـير قابلة للنــسيان، كانت تتسكع حول الحشد والأنوار التي كان امتدادها المتحرك يتوقف على بضع خطوات من بؤسه المشمئز!

إنني أحس حلقي مخـنوقاً باليـد المرعبـة للهستيريا، وبـدا لـي أن نظراتي كانت مصدومة من خلال تلك الدموع المتمردة، العصيّة عن السقوط. ما العمل؟ ما جدوى ســؤال ذلك البئــيس، وأي فضـول، وأي لعبـة عجيبة كانت عنده ليُـريها آية للنـاظرين، وفي ذلك الظـلام المقـيت، وراء سـتاره الممزق؟

حقاً، لا أتجرأُ، وربما كان من شأن سبب خجلي أن يضحككم، وسأعترف أنني كنـت أخاف إذلاله، وأخـيراً صمّـمْتُ بعد قليل أن أضع وأنا مار، شيئاً من النقود على لوحـاته الخـشبية، عله يحدس مقصـــدي من ذلك، لما جرني اندفاع حشد كبير من الناس، بعيداً عنه إلى الوراء، قد سببته أي بلبلة غير محدودة.

وعند التفاتي إليه، حاصرتني تلك الرؤية، فبحثت في تحليل ألمي المباغت، وقلت في نفسـي: لقد رأيت بـعد قلـيل، صـورة الأديب المسلي اللامـع، ورأيت صورة الشاعر العجوز بلا أصدقاء، وبلا أ ســرة، ولا أولاد، المتدهور بسبب بؤســه، وبسبب التنكر العلني له، وفي الكوخ الذي لا يرغب الناس النسيون في الولوج إليه قط .

15

الكعكة

لقد اعتدتُ على السفر. كان المنظر في الوسط الذي نزلتُ فيه، يبين عن رفعة وأصالة لا يمكن مقاومتهما. هَجَسَ بهما، بلا ريب، شيء ما، في نفسي. كانت أفكاري تتماوج بخفة تعادل خفة تماوُج المحيط الجوي؛ فكانت العواطف الخشنة، أمثال الحقد، وحب الدنيا تبدو لي الآن بعيدة أيضاً، مثل كافة السحب التي مازالت تمر في عمق الهوّات تحت قدميّ؛ حسبتُ نفسي متفتحة تفتحاً واسعاً، وصافية أيضاً مثل قبة السماء التي إنني ملفوف فيها؛ فلم يكن تذكّر الأشياء الأرضية يصل إلى قلبي إلا واهناً ضئيلاً، كرنين نواقيس الأنعام التي ظلت ترعى بعيداً، بعيداً جداً، تحت سفح جبل آخر. أحياناً، كان يمر ظل من سحاب حول البحيرة الجامدة السوداء بعمقها البعيد غوره، كما يمر انعكاسُ ظلِّ معطفِ كائن ٍ عملاقٍ من عمالقة الجو يطير عبر السماء. وأتذكر أن هذا الإحساس الإنساني والنادر قد أ ُحدث بحركة عنيفة صامتة على أكمل وجه، فكان يغمرني بفرحة مزيجة بالخوف: الخلاصة، أنني كنت أحس بالهدنة الكاملة معي أنا بالذات، ومع العالم، بفضل الروعة الحماسية التي كانت قد طوقت كياني، حتى إنني لأعتقد، وأنا في غبطتي البالغة، وفي نسياني الكلي للشر الأرضي جميعه، أنني كنت قادماً من هناك حتى لا أجد الجرائد المضحكة إلى حدما، تدعي أن الإنسان قد وُلد طيباً بالفطرة؛ ـ عندما تجدد مطالبَه المادةُ غيرُ المبدّلة، وكنتُ أفكر في تدارك التعب والتخفيف من أثر الشهية التي أحدثها صعود مديد بهذا الحد، فسحبتُ من جيبي قطعة كبيرة من الخبز، وطاساً من علبة جلدية، وقارورة لشيء من الإكسير الذي كان يبيعه الصيادلة في ذلك الزمان للسياح كي يمزجوه عند الحاجة بماء الثلج.

أخذتُ أقطع بهدوء خبزي لما أثار انتباهي صوت جد خفيف. كان يوجد أمامي كائن صغير رث الثياب أسود، متشعث الشعر، عيناه غائرتان في محجريهما، قاسيتان كعيون القضاة، كانتا تتأملان بشهية قطعة الخبز، وسمعته يتنهد بصوت منخفض أجش على الكلمة: كعكة! لم أستطع أن أثني نفسي عن الضحك وأنا استمع إلى التسمية التي كان يريد أن يشرف بها خبزي الأبيض تقريباً، فقطعتُ له من ذلك الخبز شريحة كبيرة قدمتها إليه. دنا بتؤدة، دون أن يحيد بعينيه عن هدف اشتهائه يتلقف قطعة الخبز بيده، ثم تراجع يتلهف كأنما قد خاف ألا يكون عرضي صادقاً، أو ربما فد عدلت عن ذلك العرض بعدُ.

لكن ، كان قد شقلبه على الأرض، في نفس اللحظة، لم أدر من أين خرج، صغير آخر متوحش، وهو أشبه بالمتوحش الأول الذي قد يمكن للمرء أن يخلط بين صورته، وصورة أخيه التوأم.

تدحرجا بأجمعهما على الأرض يتخاصمان على الفريسة الثمينة، بدون شك، لا أحد منهما يرغب في أن يضحي بنصف الفريسة لأخيه، فقد أمسك الأول المغتاظ بالثاني من شعره، وهذا الأخير قبض على أذن الأول بأسنانه، فبصق جزءً دامياً منها مصحوباً بشتيمة ذات لهجة إقليمية رائعة، فقد حاول المالك الشرعي للكعكة أن يغرز مخالبه الصغيرة في عيني الغاصب للكعكة، وبدوره، فإن هذا الأخير بذل كل ما في وسعه ليخنق بيد, خصمه, في حين كان الآخر يحاول إدخال مكافأة العراك في جيبه. لكن لما استبد به اليأس, استدرك المغلوب حاله ودحرج الغالب على الأرض بضربة الرأس على معدته. ما جدوى وصف صراع كريه, دامَ في الحقيقة أطول زمن لم تشأ طاقاتهما الطفولية أن تنبئ به. كانت الكعكة تنتقل من يد إلى يد. وتُبدِّل الجيب في كل لحظة لكنها تُبدّل أيضا حجمها. وا أسفاه! وحيث إنهما في الأخير منهكان, ولاهثان, وداميان, فإنهما قد توقفا بسبب استحالة متابعة العراك، وليس ثمة، والحق يقال، أي موضوع للعراك، فقطعة الخبز، كانت قد اضمحلت ومشتتة إلى فُتات شبيهة بحبات الرمل التي اختلطت بها. لقد ضبب هذا المنظر رؤية المشهد، تصْمُتُ الفرحة الوقتَ الذي كانت نفسي تطرب فيه قبل أن أرى هذين الغلامين، وكنت قد غبتُ كلية، وظللتُ هناك حزيناً ما شاء الله، أردد في نفسي بلا توقف: " يوجد هناك، والحال هذه، بلد رائع، يُدعى فيه الخبز بالكعك وقطعة من حلوى، نادراً ما تكفي لتتسبب في حرب الإخوة، على أكمل وجه.

16

الساعة

يرى الصينيون الساعة في عيون القطط. ذات يوم، لما كان أحد المبشرين يتنزه في ضواحي نانكين، فطن إلى أنه كان قد نسِيَ ساعته، فسأل طفلاً صغيراً كم تكون الساعة .

تردد غلام الإمبراطورية الإلهية أول الأمر، ثم أجاب يغير رأيه: " سأخبركم بذلك. "ظهر الغلام بعد لحظات قليلة، يمسك بين يديه، هراً قوياً ضخماً، ينظر إليه، حسب الرواية، وجهاً لوجه، فأكد دون أن يتردد: " ما زالت الظهيرة لم تحن تماما ً"؛ وهو ما كان صحيحاً بالفعل.

أما أنا؛ فإن أمِلْ نحو فيلين الرائعة، المذكورة باسمها تحديداً ، والتي هي في آن، تشريف لبنات جنسها، وكبرياء لقلبي، وعطر لروحي، آناء الليل وأطراف النهار، على حد سواء، في غمرة الضوء، أو في الظل الكامد، وفي عينيها الطريفتين...إن أملْ نحوها، أرَ الساعة دائماً بجلاء، ودائماً هي هي، ساعة رحبة، جليلة، واسعة كالفضاء، بدون تقسيم للدقائق والثواني،ـ ساعة ثابتة، لم يُعَلّمْ عليها في ساعات الجدار، على أنها خفيفة مثل آهة، سريع كلمح البصر.

ولو جاء أحد المزعجين ليضايقني أثناء الوقت الذي يتأمل فيه نظري ميناء الساعة المبهج هذا، ولو جاء بعض الجنيين غير النزهاء، والمتشددين، وبعض الشياطين في وقت غير مناسب، ليسألني: " ما الذي ترى هناك ، بعناية مفرطة؟ عمّ تبحث في عينيْ هذا الكائن، هل ترى الساعة فيهما، أيها الإنسان السفيه والخامل؟ " سوف أجيبه بلا تردد: " أجل، أرى -فيهما- الساعة، لقد حان الخلود. "

أليس كذلك، سيدتي، هاهي ذي أمدوحة غزلية، آتية إليك، جديرة حقاً بالثناء، ومفخّمة، أيضاً مثلك بالذات؟

حقاً، إنني قد سُررتُ كثيراً بأن أوجِز لكِ هذا التغزل المتكلف، الذي لا أطلب منكِ بديلَه شيئاً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق