كانوا على شفا الانهيار.. قصص لأناس قهروا الاكتئاب وهزموه

بلا شك، لم يكن وينستـون تشرشل -رئيس وزراء بريطانيا الأسبق- مبالغا عندما وصف نوبات الاكتئاب التي كانت تصيبه لفترات طويلة من حيـاته بـأنها "الكلب الأسود" الذي يحاصره طوال الوقت. لاحقا، أصبح هذا المصطـلح من أكثر المصطلحـات المتداولة بين الأطباء والمرضى على السواء لوصف مرض الاكتئاب الذي يعتبر من أكثر الأمراض النفسية انتشارا على الإطلاق.

 

بحسب منظمة الصحة العالمية يعاني من مرض الاكتئاب أكثر من 300 مليون شخص حول العالم من كافة الأعمار، ويعتبر من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا. ويصنّف الاكتئاب أيضا باعتباره من الأسباب الأساسية الأولى للعجز في العالم، والمساهم الأساسي في العبء العالمي الكلي للأمراض، مكلفا العالم مليارات الدولارات من الخسائر. وفي كل عام يُقدِم ما يقارب 800 ألف شخص على الانتحار الذي يمثل ثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية 15 – 29 عاما. (1)

  

على مسرح "تيد" ألقيت مجموعة من أهم المحاضرات التي تحلل معضلة هذا الكلب الأسود وتتفهم دوافعه وأسبابه من الناحية الطبية والاجتماعية والإنسانية، وتحكي بطولات بعضهم في التصدي له والشفاء منه، وتطرح نصائح مباشرة في التعامل معه بشكل فوري، بل وأحيانا الاستفادة منه كذلك وتحويله إلى مكسب إنساني ووظيفي.

   

الاكتئاب.. السر الذي نتشـاركه

  

أكبر تصوّر خاطئ عن الاكتئاب بين العوام هو أنه "فقدان السعادة". الواقع أن الاكتئاب لا يعني أبدا فقدان السعـادة، بل ما هو أسوأ من ذلك: فقدان الحياة. عندما تبدأ الحيوية في التسرّب عنك بعيدا، ولم يعد لديك القدرة على تذوّق أي شيء في الحياة سواء خيرها أو شرّها ولفترات طويلة، فهذا هو أكبر جرس إنذار أن المرض بدأ يدخل في حيّز التفعيل لديك، وأنك تحتـاج مساعدة.

     

في هذا الحديث المؤثر الذي حقق مشاهدات هائلة على منصة "تيد" قاربت سقف ثمانية ملايين مشاهدة حتى الآن، يأخذ الكاتب أندرو سولومون مُستمعيه إلى واحد من أكثر بقاع عقله سودا وألما خلال السنوات التي حارب فيها الاكتئاب. عرف سولومون خلال رحتله العلاجية أن هذا المرض ليس محدودا، وإنما بشكل ما منغرس في عقول كل المحيطين به بنسب متفاوتة. لم يكن هذا المرض مقصـورا فقط على فان غوخ أو الفنـان غويا، بل يصل أثره إليك وإلى أسرتك وجيرانك وأقاربك.

   

تعتبر هذه المحاضـرة من أهم محاضرات "تيد" التي سلطت الضوء على الاكتئاب بطريقة أكثر شمولية وأكثر تأثيرا كذلك، استطـاع المتحدث أن يخرج مشاعر وآلام الاكتئاب من عقله ويصدّرها للآخرين لمحاولة تقريب ما كان يشعر به أثناء تشخيصه بالمرض، ثم رحلة علاجه ومثوله للشفـاء، مقـررا أن هذا المرض هو "سر" نتشاركه جميعا ولكننا نخفيه عن بعضنا البعض طوال الوقت. ربما لأننا لا نفهم طبيعته، وربما لأننا خجلانون من الاعتراف به، وربما لأن المجتمع يتعامل باستخفاف مع مريض الاكتئاب.

  

إذا شعرت بالاكتئاب يحاصرك لا تحاربه بمفردك

  

في يوم 4 يوليو/تموز 2013، تهاوى عالمي فوقي. كان هذا هو اليوم الذي تلقيت فيه مكالمة من والدتي لتخبرني أنّ ابن أخي بول ذا الـ 22 عاما قد انتحر، بعد سنوات من الصراع ضد الاكتئاب والقلق. لا توجد كلمات يمكنها أن تصف الانهيار الذي شعرت به. أنا وبول كنّا مقرّبين جدا، لكن لم يكن لدي فكرة أنّه يمر بمثل هذه المعاناة، ولم يتحدث أي منّا إلى الآخر عن معاناته إطلاقا. أبقتنا وصمة العار والخجل صامتين.

  

واحدة من أكبر مهالك الاكتئاب هو أن تتركه يتسرّب إلى حياتك وتكون مضطـرا لمحاربته وحدك دون أن تخبر المحيطين بك أنك تعاني من شيء مخيف. الآخرون عادة يفترضون أن الاكتئاب نوع من الكسل أو الضيق أو الحزن غير المبرر، ولا يفهمون أنه مرض حقيقي مثل أي مرض آخر، ربما تكون مساوئه وأخطـاره أسوأ من أي مرض عضوي آخر.

   

نيكي ويبر آلين كانت تعاني من الاكتئاب فترة طويلة من حياتها دون أن تخبر أحدا، لتكتشف في النهاية أن العديد من أفراد أسرتها أيضا عانوا من اكتئاب وصل إلى حد الانتحار. السبب -كما تقول نيكي آلين- دائما يقع في الخجل الشديد في إخبار المحيطين بها، واعتبار الاكتئاب علامة تفاهة أو مجرّد ضيق عابر أو شعـور كاسح بالعار. في هذه المحاضرة تقوم المتحدثة بالشرح المستفيض الصريح لمسار معاناتها، بدءا من مرحلة تشخيصها بالمرض مرورا بنظـرة المجتمع وليس انتهاء بتحقيق إنجازات كبيـرة في مواجهـة المرض، فقط عندما طلبت المساعدة. المحاضرة حققت أكثر من مليون ونصف مشاهدة خلال عام واحد، وتعتبر من أكثر محاضرات "تيد" التي تتناول الاكتئاب مشاهدة.

   

كيف أرجعتني الصدمة الكهـربائية إلى الحيـاة؟

  

"طُلب منى أن أتحدث عن شيء من شأنه أن يكون جديدا على الجمهور، لم نتحدث عنه أبدا، لم نكتب عنه أبدا، وقد كنت أعد لهذه اللحظة. حسنا، إليكم السر الذي أخفيته فترة طويلة من حيـاتي وهو أنني رجل قبل 30 عاما تقريبا أُنقذت حياته عن طريق دورتين طويلتين من العلاج بالصدمات الكهربية.. ودعوني أروي لكم هذه القصة"

 

في منتصف حيـاته العملية المميزة كطبيب جرّاح، بدأ شيروين نولاند يعرف أن هناك شيئا ما خطأ في حيـاته. شيء مخيف يجعله دائم الحزن، دائم الهدوء، دائم الضيق، لا يهتم بأي شيء على الإطلاق. حتى إن زملاءه الجرّاحين ناقشوه في مستواه العملي الذي أصبح مترديا فجأة، فطلب دون أي انفعـال أن يستقيل من وظيفته لأنه لم يعد قادرا على الاستمرار.

 

انعكس ذلك على حياته العائلية أيضا، أصبح زواجه على شفا الانهيار. كل شيء مظلم وكل شيء غير مبهج، والمفترض أن ما كان مُبهجا أصبح فجأة لا يمثّل له أي قيمة. حيـاة لم يعد يستطع أن يميّز فيها بين الجيد والسيئ. كان هذا تشخيص مرضه: الاكتئاب المزمن الشديد، الذي بدأ يتطور إلى هواجس وهلاوس عزلته تماما عن الحياة، إلى أن بدأ أخيرا في العلاج المنتظم بالجلسـات الكهـربائية التي أعادته إلى حياته ووظيفته بعد سنوات طويلة من الانسحاب.

 

المحاضـرة حققت مشاهدات قاربت مليوني مشاهدة وتعتبر من أهم المحاضرات على "تيد" (Ted) التي لها جانب معلوماتي بخصوص تطوّر العلاج النفسي والعقلي على مر العصور، حيث يدمج المتحدّث ما بين معرفته الطبيـة وبين تجربته الشخصية. يشرح أولا معنى الأمراض النفسية وتطور علاجها -كطبيب-، ثم يعرج على تجـربته الشخصية -كمريض- والمراحل التي مرّ بها من تشخيصه بالمرض حتى العلاج.

  

هل يمكن الوقاية من الاكتئاب واضطـرابات ما بعد الصدمة دوائيا؟

  

نحن نواجه وباء من اضطرابات المزاج كالاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. واحد من كل أربعة بالغين في الولايات المتحدة يُعاني من مرض عقلي، مما يعني أنّه إذا لم تعانِ منه شخصيا أو لم يعانِ منه شخص في عائلتك، فمن المرجح أن يكون لدى شخص تعرفه، و غالبا لن يتكلم هذا الشخص عنه. الاكتئاب الآن تفوّق بالفعل على الإيدز والملاريا والسكري والحرب كمسبب رئيسي للإعاقة في جميع أنحاء العالم. وكما كنا لا نعرف سبب السل في الخمسينيات، فإننا لا نعرف ما سبب الاكتئاب. وعندما يتطور فإنه يصبح مزمنا، يستمر مدى الحياة، وليس له دواء شافٍ معروف.

  

من أهم المحاضـرات العلمية التي ألقيت على مسرح "تيد" بمدينة نيويورك عام 2016، والتي تضم في طيّـاتها رحلة معلوماتية شديدة التشويق بخصوص "العلاج الدوائي" للأمراض النفسية خصوصا الاكتئاب واضطـراب ما بعد الصدمات العنيفة. بداية الرحلة لم تكن أصلا بهدف علاج الاكتئاب، وإنما لعلاج السل. الدواء الذي صنع لعلاج السل اتضح أنه يحمل آثارا مُبهجة على المرضى، وبالتالي دُرس بشكل أكبر ليتمكن العلماء من صناعة أول عقار لمكافحة الاكتئاب في الخمسينيات من القرن العشرين.

 

على مدار العقود الأخيرة، طوّر الطب سلسلة من العقاقير الدوائية شديدة الفعالية التي يمكنها علاج مراحل عديدة من الاكتئاب والصدمات بكفاءة عالية. صحيح أن بعض المرضى لا يتأثرون بالعلاج مثل الآخرين، لكن الأغلبية منهم بالفعل تلقى تحسنا كبيرا في الحياة ويمكنهم العودة لممارستها بكل تفاصيلها.

 

المحاضرة حققت مشاهدات تجاوزت المليون وربع مشاهدة على منصة "تيد" الرسمية، وحملت أيضا استشرافا من المتحدثة عالمة الأعصاب "ريبيكيا براشمـان" بخصوص تصورات علاج الاكتئاب دوائيا في المستقبل القريب والبعيد.

  

اعتــرافات مكتئب خفيـف الظـل

  

قبل سنتين جلست على حافة سريري، المكان الذي جلست فيه ملايين المرات من قبل وكنت أرغب في الانتحار. إذا نظرتم إلى شريط حياتي، لن يخطر على بالك أنّ طفلا يفكّر في الانتحار. سترون طفلا كان قائد فريقه في كرة السلة، طالب السنة في المسرح والدراما، طالب السنة في الإنجليزية، شخصا كان اسمه دائما في قائمة الشرف وحاضرا في كلّ حفلة. إذن ستقولون إنني لم أكن مكتئبا، ستقولون إنني لم أكن على وشك الانتحار، لكنكم مخطئون. جاءت الليلة التي جلست بجوار قارورة حبوب مع ورقة وقلم في يدي وأوشكت على إنهاء حياتي وكنت على مقربة من فعل ذلك. 

   

نظرة سريعة إلى "كيفين بريل" تمنح شعورا مؤكدا أن هذا الشخص تحديدا أبعد ما يكون عن الاكتئاب. الاكتئاب خُلق لأشخاص مختلفين تماما عن كيفين بريل الذي تجده باسم الوجه طوال الوقت، ضاحكا طوال الوقت، ستجده في أي حفلة غنائية، ستجده يمارس هواياته في العزف والتمثيل المسرحي. ما علاقة هذا الشاب بالاكتئاب من قريب أو من بعيد؟ الإجابة المدهشة أن علاقته بالاكتئاب أقرب إليه من حبل الوريد، لدرجة تفكيـره عشرات المرات في الانتحار.

 

أحيانا، يبدو الاكتئاب خادعا. ليس شرطا أن يقتـرن بمظهر عام لصاحبه بأنه حزين أو منعزل، بل ربما يكون من علاماته هو أن يكون المريض به ضحوكا وسعيدا بشكل مبالغ فيه. في الواقع، هذا الأسلوب هو محاولة من المريض لإقناع نفسه أنه طبيعي وأنه يحيا حياة طبيعية وأن ما يشعر به داخليا هو مجرد وهم. ولكن في النهاية يظل الأمر نفسه: مريض اكتئاب.

 

حققت المحاضرة التي ألقيت على مسرح "تيد" عام 2013 نسبة مشاهدات كبيرة تجاوزت ثلاثة ملايين مشاهدة على منصة "تيد" الرسمية، وتعتبر من أهم المحاضـرات التي سلطت الضوء على جانب الحياة الاجتماعية للمكتئبين وما يشعرون به حقا في مقابل ما يظهـرونه من تصرفات تبدو مرحة وتفاؤلية للغاية.

  

عندما يتحول الاكتئاب إلى صديق.. ومشروع ريادي

  

مثله مثل غيـره، عندما أصيب أحمد أبو الحظ بالاكتئاب بدأ رحلة من المعاناة يمرّ بها أي شخص آخر والتي تتلخّص في حالة دائمة من السحب إلى الأسفل. ولكن بمرور الوقت، أدرك أنه يستطيع أن يحوّل هذا الاكتئاب إلى طاقة إيجابية لا تفيده فقط على المستوى النفسي وإنما على المستوى الريادي والوظيفي أيضا.

  

تخرّج في كلية الهندسة، وفي فبراير/شباط 2014 قادته موجة الاكتئاب التي مرّ بها إلى تأسيس مشروع "شيزلونغ" (Shezlong) كمنصة رقمية للعلاج النفسي تتيح المستخدمين الحصول على جلسات نفسية علاجية عبر الإنترنت بهويات مجهولة وشديدة السرية، وتقديم كافة المساعدات النفسية والعلاجية لمختلف الأمراض يشرف عليها أطباء متخصصون. في هذه المحاضرة يسرد أحمد أبو الحظ قصته مع الاكتئاب وكيف جعله صديقا أوصله إلى تأسيس مشروعه الريادي الناجح الذي حاز على جولات تمويلية لاحقا واعتبر من المشروعات الرياديـة العربية الواعدة في القطاع الطبي.

  

في النهاية، لا يزال الكثيـرون في العالم عموما، والعالم العربي خصوصا يتعاملون مع الاكتئاب باعتباره مرضا مثيرا للاستخفاف وشكلا من أشكال الحزن أو الضيق العابر ولا يستحق أن يوصف بأنه مرض من الأساس. أو من ناحية أخرى، يتم التعامل مع الاكتئاب باعتباره مرضا مشينا ومثيرا للحرج خصوصا في جوانبه الاجتماعية أو إذا كان مصحوبا بالهوس الذي يستدعي علاجا دوائيا وإشرافا طبيا. ناهيك بالطبع عن الشريحة الكبيرة في العالم العربي التي ما زالت تتعامل مع المرض باعتباره إشارة إلى نقص التدين أو ابتعـاد عن المعايير الروحية السليمة.

  

كل هذه الاعتبارات الخاطئة في النهاية تصب في مصلحة انتشار المرض بشكل أكبر في نفسية وعقل المريض، ولا يؤدي إلى أي شيء سوى المزيد من معاناته، وبالتالي المزيد من عجـزه لعودته إلى الحياة الطبيعية. بمعنى آخر، أهم ما يجب التركيز عليه في التعامل مع الاكتئاب هو تغيير القناعات بخصوصه والتعامل معه باعتباره مرضا كأي مرض آخر له تشخيص وعلاج ومتابعة.


حول هذه القصة

المزيد من مقالة
الأكثر قراءة