محمد شعبان أيوب
محمد شعبان أيوب
787

ابن بطوطة في مصر!

16/8/2016
حين تقف مع ابن بطُّوطة ومع ابن جبير وليون الأفريقي وابن حوقل وناصر خسرو وغيرهم من رحّالة المسلمين، بل حين تقف مع ظاهرة "الرحلة في طلب العلم" في تاريخ الحضارة الإسلامية تجدُ أن أولئك الذين لم يعرفوا طائرة تقطع الأرض في ساعات كانوا أشد حرية وانطلاقًا من جيل الطائرات اليوم!


لماذا طافوا في الأرض؟!
قد رأيتُ أن أبدأ مع ابن بطٌّوطة الذي وصفته الأكاديميات الجغرافية الحديثة في الغرب بأمير الرحّالين المسلمين
إنك حين ترى ابن بطوطة يقطع الأرض قطعًا، ويغيب عن أهله ربع قرن كامل يذهب فيها شابا يافعًا ويعود كهلاً محملاً بالعجائب والغرائب والتجارب لا تنفك تسأل نفسك لماذا فعل ابن بطوطة ذلك؟ هل كان ابن جبير البلنسي مجنونًا حين ترك وطنه بضع عشرة سنة؟! وهل كان الباجي الفقيه اللامع ساهيًا حين مكث الفترة ذاتها بعيدًا عن الأندلس وأهله ؟!

لا .. لا يمكن أن يكون هؤلاء مجموعة من المغامرين الموتورين، ولقد لاحظ عدد من المستشرقين المعاصرين أن الجغرافيا الوصفية العربية تعد الأغزر بين صنوف هذا اللون في حضارات العصر الوسيط، بل لقد رأى العلامة كراتشكوفسي أن هذا اللون من الجغرافيا "يصعبُ إيجاد مثيل له في آداب الأمم الأخرى".

لقد كان السبب الأهم والأبرز الذي دفع هؤلاء الرحّالة هو شعورهم بوحدة أقطار العالم الإسلامي تحت ظل من الوحدة السياسية الممثلة في الخلافة وإن كانت شكلية في معظم الأوقات، ثم وحدة الهدف الذي كان غالبًا لباعث الحج والعمرة ومن ثم التعارف على المسلمين من الأجناس والألوان والأعراق المختلفة، ثم أخيرًا بهدف طلب العلم، ولدينا في مصنفات التراجم والطبقات والتواريخ عشرات الآلاف من هؤلاء الذين جابوا الأرض طولاً وعرضًا، حتى إن بعضهم كان يقطع القفار لطلب مسألة واحدة، أو حديث نبوي واحد!

من أجل ذلك رأيتُ أن نعيش مع هؤلاء الرحّالة والجغرافيين في رحلاتهم، لننظر بمنظارهم إلى عالمهم، ولنرى كيف رأوا إخوانهم من المسلمين، وكيف رأوا الآخر وتعاملوا معه في ضوء من ثقافتهم وعصرهم، ثم هي رحلات ممتعة إذ لا تغيب فيها المتعة الذاتية عند الرحالة نفسه، ولا يغيب فيها الاندهاش والبهجة و الخوف والفرح والحزن وتمني العودة، أو اشتهاء الأحباب. وقد رأيتُ أن أبدأ مع ابن بطٌّوطة الذي وصفته الأكاديميات الجغرافية الحديثة في الغرب بأمير الرحّالين المسلمين، وهو بحق يستحق هذا اللقب عن جدارة!

عجائب مصر التي لا تنقضي!
لقد رأى ابن بطوطة طبائع أهل مصر في ذلك العصر، فرآهم قوم متعلقون بالحياة، محبون للفرح والسرور
غرائب مصر وعجائبها لا تنقضي، ولكن حسبنا أن نرى كيف رآها ابن بطوطة، فقد زارها في سلطنة السلطان المملوكي الأعظم الناصر محمد بن قلاوون (709 – 741/1309- 1341م)، وأول المشاهد الغريبة التي صُدم بها بالإسكندرية عمامة ذلك الفقيه الإسكندري عماد الدين الكندي الذي "كان يعتمُّ بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أرَ في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها! رأيتُه يومًا قاعدًا في صدر محراب وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب".

وحين نزل ابن بطوطة مصر انبهر بما رأى، وأخذت القاهرة بلُبّه ونفسه فراح يقول: "وصلتُ إلى مدينة مصر هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة، المتباهية بالحُسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئتَ من عالم وجاهل، وجادّ وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم، على سعة مكانها وإمكانها، شبابُها يجدُّ على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح منزل السعد، قهرت قاهرتُها الأمم، وتملكت ملوكُها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل التي جلَّ خطرها، وأغناها عن أن يستمدَّ القُطرُ قطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجد السير، كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة".

لقد رأى ابن بطوطة طبائع أهل مصر في ذلك العصر، فرآهم قوم متعلقون بالحياة، محبون للفرح والسرور، يقيمون الاحتفالات لأقل مناسبة، على اتصال شديد بسلطانهم الناصر محمد بن قلاوون، قال: "أهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهدتُ بها مرة فُرجة بسبب بَرَء الملك الناصر من كسرٍ أصاب يده، فزيَّن كلُّ أهل سوق سوقَهم، وعلَّقوا بحوانيتهم الحُلَلَ والحُلي وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أيامًا".

ولا يندهش ابن بطوطة من إعجاب المصريين بسلطانهم، فقد أقر بفضائله، قائلاً: "للملك الناصر رحمه الله السيرة الكريمة والفضائل العظيمة، وكفاه شرفا انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين، وما يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج من الجمال التي تحمل الزاد والماء للمنقطعين والضعفاء وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي"، وكانت مصر المماليك راعية الحرمين الشريفين.

أما أمراء مصر فكانوا يتنافسون على إقامة المباني العظيمة التي لا تزال حتى اليوم تشتهر بها القاهرة، وما سُميت القاهرة مدينة الألف مئذنة إلا بعمائر المماليك الدينية والعسكرية، وحسبنا أن نقف هنا مع ابن بطوطة في مشاهداته عن مصر، لنكمل في المرة القادمة حديثه الماتع، وأوصافه الدقيقة اللافتة لعصره!

شارك برأيك

#يتصدر_الآن

  • أضف تدوينة
  • أضف تدوينة مرئية
  • أضف تدوينة قصيرة